كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن كثير في روايةٍ {مِنْ سَبًَا} مقصورًا منوَّنًا. وعنه أيضًا: {مِنْ سَبْأَ} بسكون الباءِ وفتحِ الهمزةِ، جعله على فَعْل ومَنَعَه من الصرفِ لِما تقدَّم.
وعن الأعمش {مِنْ سَبْءِ} بهمزةٍ مكسورةٍ غير منونةٍ. وفيها إشكالٌ؛ إذ لا وجهَ للبناء. والذي يظهر لي أنَّ تنوينَها لابد أَنْ يُقْلَبَ ميمًا وصلًا ضرورةَ ملاقاتِه للباء، فسمعها الراوي، فظنَّ أنه كَسَر مِنْ غيرِ تنوينٍ. ورُوِيَ عن أبي عمروٍ {مِنْ سَبَا} بالألفِ صريحةً كقولِهم: تَفَرَّقُوا أَيْدِيْ سَبا. وكذلك قرئ: {بنَبَا} بألفٍ خالصةٍ، وينبغي أَنْ يكونا لقارِىءٍ واحدٍ.
و{سَبَأ} في الأصلِ اسمُ رجلٍ مِنْ قَحْطانَ، واسمه عبد شمس، وسَبَأُ لقبٌ له. وإنما لُقِّبَ به لأنه أولُ مَنْ سبى، وَوُلِدَ له عشرةُ أولادٍ، تيامَنَ ستةٌ وهم: حِمْيَرُ وكِنْدَةُ والأَزْدُ وأَشْعَرُ وَخَثْعَمُ وبُجَيْلَةُ، وتشاءَمَ أربعةٌ وهم: لَخْمٌ وجُذامُ وعامِلَةُ وغَسَّانُ.
{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}.
قوله: {وَأُوتِيَتْ} يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على {تَمْلِكُهم} وجاز عَطْفُ الماضي على المضارع؛ لأنَّ المضارعَ بمعناه أي: مَلَكَتْهُمْ. ويجوز أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من مرفوعِ {تَمْلِكُهم} وقد معها مضمرةٌ عند مَنْ يرى ذلك.
وقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} عامٌّ مخصوصٌ بالعَقْلِ لأنها لم تُؤْتَ ما أُوْتِيَه سُلَيْمانُ.
قوله: {وَلَهَا عَرْشٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه جملةً مستقلةً بنفسِها سِيْقَتْ للإِخبارِ بها، وأَنْ تكونَ معطوفةً على {أُوْتِيَتْ} وأَنْ تكونَ حالًا مِنْ مرفوعِ {أُوْتِيَتْ} والأحسنُ أَنْ تُجْعَلَ الحالُ الجارَّ، و{عَرْشٌ} مرفوعٌ به، وبعضُهم يَقِفُ على {عَرْشٌ} ويَقْطَعُه عن نَعْتِه. قال الزمخشري: ومِنْ نَوْكَى القُصَّاص مَنْ يقفُ على قولِه: {وَلَهَا عَرْشٌ} ثم يَبْتَدِىءُ {عظيمٌ وَجَدْتُها} يريد: أمرٌ عظيمٌ أَنْ وَجَدْتُها، فَرَّ مِنْ استعظامِ الهُدْهُدِ عرشَها فوقع في عظيمةٍ وهي مَسْخُ كتابِ الله. قلت: النوكى: الحمقى جمعَ أَنْوكِ. وهذا الذي ذكرَه مِنْ أَمْرِ الوقف نقله الدانيُّ عن نافعٍ، وقَرَّره، وأبو بكر بن الأنباري، ورفعه إلى بعضِ أهل العلمِ، فلا ينبغي أَنْ يُقال: نوكى القُصَّاص. وخرَّجه الدانيُّ على أَنْ يكونَ {عظيم} مبتدأ و{وَجَدْتُها} الخبرُ. وهذا خطأٌ كيف يُبْتدأ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ، ويُخْبَرُ عنها بجملةٍ لا رابطَ بينها وبينَه؟ والإِعرابُ ما قاله الزمخشريُّ: مِنْ أنَّ عظيمًا صفةٌ لمحذوفٍ خبرًا مقدمًا و{وَجَدْتُها} مبتدأٌ مؤخرٌ مُقَدَّرًا معه حرفٌ مصدريٌّ أي: أمرٌ عظيمٌ وُجْداني إياها وقومَها غيرَ عابدي اللهِ تعالى.
قوله: {وَجَدتُّهَا} هي التي بمعنى لَقِيْتُ وأَصَبْتُ فتتعدى لواحدٍ، فيكونُ {يَسْجُدون} حالًا مِنْ مفعولِها وما عُطِفَ عليه.
قوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قرأ الكسائيُّ بتخفيف {ألا} والباقون بتشديدها. فأمَّا قراءةُ الكسائيِّ ف {ألا} فيها تنبيهٌ واستفتحاحٌ، ويا بعدها حرفُ نداءٍ أو تنبيهٍ أيضًا على ما سيأتي واسْجُدوا فعلُ أمرٍ. وكان حَقٌّ الخَطِّ على هذه القراءةِ أن يكونَ يا اسْجُدوا، لكنَّ الصحابةَ أسقطُوا ألفَ يا وهمزةَ الوصلِ من اسْجُدوا خَطًَّا لَمَّا سَقَطا لفظًا، ووَصَلُوا الياءَ بسين اسْجُدوا، فصارَتْ صورتُه {يَسْجُدوا} كما ترى، فاتَّحدت القراءتان لفظًا وخَطًَّا واختلفتا تقديرًا.
واختلف النحويون في يا هذه: هل هي حرفُ تنبيهٍ أو للنداءِ، والمنادى محذوفٌ تقديرُه: يا هؤلاءِ اسْجُدوا؟ وقد تقدَّم ذلك عند قولِه: {ياليتني} [الآية: 73] في سورة النساء. والمرجَّحُ أَنْ تكونَ للتنبيهِ؛ لئلا يُؤَدِّيَ إلى حَذْفٍ كثيرٍ مِنْ غيرِ بقاءِ ما يَدُلُّ على المحذوفِ. ألا ترى أنَّ جملةَ النداءِ حُذِفَتْ، فلو ادَّعَيْتَ حَذْفَ المنادى كَثُرَ الحذفُ ولم يَبْقَ معمولٌ يَدُلُّ على عامِلِهِ، بخلافِ ما إذا جَعَْلتَها للتنبيهِ. ولكنْ عارَضَنَا هنا أنَّ قبلَها حرفَ تنبيهٍ آخرَ وهو {ألا} وقد اعْتُذِرَ عن ذلك: بأنه جُمِع بينهما تأكيدًا. وإذا كانوا قد جَمَعُوا بين حرفين عامِلَيْنِ للتأكيدِ كقوله:
فَأَصْبَحْنَ لا يَسْألْنَنِي عَنْ بما به

فغيرُ العامِلَيْن أولى. وأيضًا فقد جَمَعُوا بين حَرْفَيْنِ عامِلَيْنِ مُتَّحِدَّيْ اللفظِ والمعنى، كقوله:
فلا واللهِ لا يلفى لِما بي ** ولا لِلِما بهم أبدًا دَواءُ

فهذا أَوْلَى. وقد كَثُرَ مباشرةُ يا لفعلِ الأمرِ وقبلَها {ألا} التي للاستفتاح كقوله:
ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّتَ اسْلَمي ** ثلاثَ تحيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمي

وقوله:
ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيَّ على البِلى ** ولا زالَ مُنْهَلًا بجَرْعائِكِ القَطْرُ

وقوله:
ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعِقْدِ ** وذَاتَ اللِّثاثِ الجُمِّ والفاحِمِ الجَعْدِ

وقوله:
ألا يا اسْلمي يا هندُ هندَ بني بدرٍ ** وإن كان حَيَّانا عِدًا آخرَ الدهرِ

وقوله:
ألا يا اسْقِياني قبلَ حَبْلِ أبي بكرِ ** لعل منايانا قَرُبْنَ ولا نَدْري

وقوله:
ألا يا اسْقِياني قبلَ غارةِ سِنْجالِ

وقوله:
فقالَتْ ألا يا اسْمَعْ أَعِظْكَ لخُطْبةٍ ** فقلتُ سَمِعْنا فانْطِقي وأَصِيْبي

وقد جاءَ ذلك، وإنْ لم يكنْ قبلَها ألا كقوله:
يا دارَ هندٍ يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ** بِسَمْسَِمٍ أو عَنْ يمين سَمْسَِمِ

فقد عَرَفْتَ أنَّ قراءةَ الكسائيِّ قويةٌ لكثرةِ دَوْرِها في لغتهم.
وقد سُمع ذلك في النثر، سُمِع بعضُهم يقول: ألا يا ارحموني، ألا يا تَصَدَّقوا علينا. وأمَّا قولُ الأخرِ:
يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كلِّهمُ ** والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ

فيُحتمل أَنْ تكونَ يا للنداء، والمنادى محذوف، وأَنْ تكونَ للتنبيهِ وهو الأرجحُ لِما مَرَّ.
واعلمْ أن الكسائيَّ الوقفُ عنده على {يَهْتَدون} تامٌّ.
وله أن يَقِفَ على ألا يا معًا ويَبْتَدىءَ اسْجُدوا بهمزة مضمومةٍ، وله أَنْ يقفَ على ألا وحدَها، وعلى يا وحدَها؛ لأنهما حرفان منفصِلان. وهذان الوقفان وقفا اختبارٍ لا اختيارٍ؛ لأنهما حرفان لا يَتِمُّ معناهما، إلاَّ بما يتصلان به، وإنما فعله القراءُ امتحانًا وبيانًا. فهذا توجيهُ قراءةِ الكسائيِّ، والخطبُ فيها سَهْلٌ.
وأما قراءةُ الباقين فتحتاج إلى إمعانِ نَظَرٍ. وفيه أوجهٌ كثيرةٌ:
أحدها: أنَّ {ألاَّ} أصلُها: أَنْ لا، فأنْ ناصبةٌ للفعلِ بعدَها؛ ولذلك سَقَطَتْ نونُ الرفعِ، ولا بعدها حَرفُ نفيٍ. وأنْ وما بعدها في موضع مفعولِ {يَهْتَدون} على إسقاطِ الخافضِ، أي: إلى أن لا يَسْجُدوا. ولا مزيدةٌ كزيادتِها في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29].
الثاني: أنه بدلٌ مِنْ {أعمالَهم} وما بينهما اعتراضٌ تقديرُه: وزَيَّن لهم الشيطانُ عدمَ السجودِ لله.
الثالث: أنه بدلٌ من {السبيل} على زيادةِ {لا} أيضًا. والتقديرُ: فصَدَّهم عن السجودِ لله تعالى. الرابع: أنَّ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} مفعول له. وفي متعلَّقه وجهان، أحدهما: أنه زَيَّن أي: زَيَّن لهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجدُوا. والثاني: أنَّه متعلِّقٌ ب {صَدَّهم} أي: صَدَّهم لأجلِ أَنْ لا يَسْجُدوا. وفي {لا} حينئذٍ وجهان، أحدهما: أنه ليسَتْ مزيدةً، بل نافيةٌ على معناها من النفي. والثاني: أنها مزيدةٌ والمعنى: وزَيَّن لهم لأجلِ توقُّعِه سُجودَهم، أو لأجْلِ خَوْفِه مِنْ سُجودِهم. وعدمُ الزيادةِ أظهرُ.
الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وهذا المبتدأُ: إمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ضميرًا عائدًا على {أعمالَهم} التقديرُ: هي أن لا يَسْجدوا، فتكون {لا} على بابِها من النفي، وإمَّا أن يُقَدَّرَ ضميرًا عائدًا على {السبيل} التقديرُ: هو أَنْ لا يَسْجُدوا فتكون {لا} مزيدةً على ما تقدَّم ليَصِحَّ المعنى.
وعلى الأوجهِ الأربعةِ المتقدمةِ لا يجوزُ الوقفُ على {يَهْتدون} لأنَّ ما بعدَه: إمَّا معمولٌ له أو لِما قبلَه مِنْ زَيَّن وصَدَّ، أو بدلٌ مِمَّا قبله أيضًا مِنْ {أعمالَهم} أو من {السبيل} على ما قُرِّر وحُرِّرَ، بخلافِ الوجهِ الخامسِ فإنه مبنيٌّ على مبتدأ مضمرٍ، وإن كان ذلك الضمير مُفَسَّرًا بما سَبَقَ قبلَه.
وقد كُتِبَتْ {ألاَّ} موصولةً غيرَ مفصولةٍ، فلم تُكْتَبْ أنْ منفصِلةً مِنْ لا فمِنْ ثَمَّ امتنعَ أَنْ يُوْقَفَ لهؤلاء في الابتلاء والامتحان على أنْ وحدَها لاتِّصالِها بلا في الكتابةِ، بل يُوْقَفُ لهم على {ألاَّ} بجملتِها، كذا قال القُراء.
والنحويون متى سُئِلوا عن مثلِ ذلك وَقَفُوا لأجلِ البيانِ على كلِّ كلمةٍ على حِدَتِها لضرورة البيانِ، وكونُها كُتِبَتْ متصلةً بلا غيرُ مانعٍ من ذلك. ثم قولُ القُرَّاءِ كُتِبَتْ متصلةً فيه تجوُّزٌ وتَسامُحٌ؛ لأنَّ حقيقةَ هذا أَنْ يُثْبِتُوا صورةَ نونٍ ويَصِلُونها بلا، فيكتبونها: أَنْلا، ولكن لَمَّا أُدْغِمَتْ فيما بعدَها لفظًا وذَهَبَ لفظُها إلى لفظِ ما بعدَها، قالوا ذلك تسامحًا.
وقد رتَّب أبو إسحاق على القراءتين حُكمًا: وهو وجوبُ سجودِ التلاوةِ وعَدَمُه؛ فأوجبه مع قراءةِ الكسائيِّ وكأنه لأجلِ الأمرِ به، ولم يُوْجِبْه في قراءة الباقين لعدمِ وجودِ الأمرِ فيها. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لم يَرْتَضِه منه فإنه قال: فإنْ قلتَ: أسَجْدَةُ التلاوةِ واجبةٌ في القراءتين جميعًا أو في واحدةٍ فيهما؟ قلت: هي واجبةٌ فيهما، وإحدى القراءتين أمرٌ بالسجودِ، والأخرى ذَمٌّ للتارك. فما ذكره الزجاج مِنْ وجوبِ السجدةِ مع التخفيفِ دونَ التشديدِ فغيرُ مرجوعٍ إليه.
قلت: وكأنَّ الزجاجَ أخذ بظاهرِ الأمرِ، وظاهرُه الوجوبُ، وهذا لو خُلِّيْنا والآيةَ لكان السجودُ واجبًا، ولكنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ على استحبابِه دونَ وجوبِه، على أنَّا نقول: هذا مبنيٌّ على نظرٍ آخر: وهو أنَّ هذا الأمرَ من كلامِ اللهِ تعالى، أو من كلامِ الهُدْهُدِ محكيًّا عنه. فإنْ كان مِنْ كلامِ اللهِ تعالى فيُقال: يَقْتضي الوجوبَ، إلاَّ أَنْ يجيْءَ دليلٌ يَصْرِفُه عن ظاهرِه، وإنْ كان من كلامِ الهُدْهد وهو الظاهرُ ففي انتهاضِه دليلًا نظرٌ لا يخفى.
وقرأ الأعمشُ {هَلاَّ}، و{هَلا} بقلب الهمزة هاءً مع تشديدِ لا وتخفيفها وكذا هي في مصحفِ عبد الله. وقرأ عبدُ الله {تَسْجُدون} بتاء الخطابِ ونونِ الرفع. وقُرِىءَ كذلك بالياءِ مِنْ تحتُ. فمَنْ أَثْبَتَ نونَ الرفعِ فألا بالتشديدِ أو التخفيفِ للتحضيضِ، وقد تكونُ المخففةُ للعَرْضِ أيضًا نحو: ألا تَنْزِل عندنا نتحدَّث وفي حرف عبدِ الله أيضًا: {ألا هَلْ تَسْجدُون} بالخطاب.
قوله: {الذي يُخْرِجُ الخبء} يجوز أَنْ يكونَ مجرورَ المحلِّ نعتًا له أو بدلًا منه أو بيانًا، أو منصوبَه على المدحِ، ومرفوعَه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ. والخَبْءُ مصدرُ خَبَأْتُ الشَيءَ أخبَؤُه خَبْئًا أي: سَتَرْتُهُ، ثم أُطْلِقَ على الشيءِ المَخْبوء. ونحُوه: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11]. وفي التفسير: الخَبْءُ في السماواتِ: المطرُ، وفي الأرض: النباتُ. والخابِيَةُ مِنْ هذا، إلاَّ أنهم التزموا فيها تَرْكَ الهمزةِ كالبَرِيَّة والذُّرِّيَّة عند بعضِهم. وقرأ أُبَيٌّ وعيسى {الخَبَ} بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الباءِ، وحَذْفِ الهمزة، فيصيرُ نحوَ: رأيتُ الأَبَ. وقرأ عبد الله وعكرمةُ ومالك بن دينار {الخبا} بألفٍ صريحة. ووجْهُها: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفًا فلزِمَ تحريكُ الباءِ، وذلك على لغةِ مَنْ يَقِفُ من العرب بإبدال الهمزةِ حرفًا يجانِسُ حركتَها فيقول: هذا الخَبُوْ، ورأيتُ الخَبا ومررت بالخَبِي، ثم أُجْرِي الوصلُ مجرى الوقفِ.
وعندي أنه لَمَّا نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها لم يَحْذِفْها، بل تركها فسكنَتْ بعد فتحةٍ فدُيِّرَتْ بحركةِ ما قبلها، وهي لغةٌ ثابتةٌ يقولون: المَراة والكَماة بألفٍ مكانَ الهمزةِ بهذه الطريقةِ.
وقد طَعن أبو حاتم على هذه القراءةِ وقال: لا يجوزُ في العربيةِ؛ لأنه إنْ حَذَفَ الهمزة ألقى حركتَها على الباء، فقال: الخَبَ، وإن حَوَّلها قال: الخَبْيَ بسكونِ الباءِ وياءٍ بعدَها قال المبرد: كان أبو حاتم دونَ أصحابِه في النحوِ، لم يَلْحَقْ بهم، إلاَّ أنه إذا خَرَجَ مِنْ بلدِهم لم يَلْقَ أَعْلَمَ منه.
قوله: {فِي السماوات} فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ ب {الخَبْءَ} أي: المخبوءَ في السماواتِ. والثاني: أنه متعلقٌ ب {يُخْرِجُ} على أنَّ معنى {في} معنى مِنْ أي: يُخْرِجُه من السماواتِ. وهو قول الفراء.
قوله: {مَا تُخْفُونَ} قرأ الكسائيُّ وحفص بالتاء مِنْ فوقُ فيهما، والباقون بالياءِ مِنْ تحتُ. فالخطابُ ظاهرٌ على قراءةِ الكسائي؛ لأنَّ قبلَه أمْرَهم بالسجودِ وخطابَهم به. والغَيْبَةُ على قراءةِ الباقينِ غيرَ حفصٍ ظاهرةٌ أيضًا؛ لتقدُّمِ الضمائرِ الغائبةِ في قوله: {لهم} و{أعمالهم} و{صَدَّهم} و{فهمْ}. وأمَّا قراءةُ حفصٍ فتأويلُها أنه خَرَجَ إلى خطابِ الحاضرين بعد أَنْ أتمَّ قضيةَ أهلِ سَبَأ. ويجوز أَنْ يكونَ التفاتًا على أنه نزَّل الغائبَ منزلةَ الحاضرِ فخاطبه مُلْتَفِتًا إليه.
قال ابن عطية: القراءةُ بياءِ الغَيْبة تعطي أن الآيةَ من كلامَ الهُدْهد، وبتاءِ الخطابِ تعطي أنها من خطابِ الله لأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقد تقدَّم أنَّ الظاهر أنه من كلامِ الهدهد مطلقًا. وكذلك الخلافُ في قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} هل هو من كلامِ الهدهدِ استدراكًا منه، لَمَّا وَصَفَ عَرْشَ بلقيسَ العظيمَ، أو من كلامِ اللهِ تعالى رَدَّا عليه في وَصْفِه عَرْشَها بالعظيم؟.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)}.
والعامَّةُ على جرِّ {العظيم} تابعًا للجلالة. وابن محيصن بالرفعِ. وهو يحتمل وجهين. أن يكونَ نعتًا للربِّ، وأَنْ يكونَ مقطوعًا عن تبعيَّةِ العرش إلى الرفعِ بإضمارِ مبتدأ. اهـ.